- 1 -

ركضت نحوهم خطوات وصرّخت عليهم: انزل يا المسخوط، خلوا عليكم الشجرة، سر لداركم… تمامًا كما كان يصيح فينا سي خليفة وعمي والجيران الذكور عندما كنا في أعمارهم نتسلق جدران منازلنا ونقفز من سقف إلى سقف. السطوح كانت مساحات مُحرّرة، أقرب إلى الجنة، يعبرها الأطفال بخفة فيطيرون من سطح إلى سطح غير آبهين بقوانين الملكية التي تسري على الطوابق الأرضية ويعبرون من فضاءات نسوة تنشرن الغسيل وهن مشمرات على زنودهن وصدورهن فلا تجزعن، وأخريات تنسفن الطحين أو تقمن المنسج أو تنقشن الحناء على سيقان وأجساد مكشوفة فتضحكن لوعود الرجولة التي تعبر بينهن ولا تنكمشن كما تفعلن في الأدوار الأرضية… الآن فهمت لم أحب السطوح والفيرندات والبلكونات. لأنها مواعيد بين السماء والأرض.



- 2 - 

أيها النّمل رفقًا بتلك الشجرة المباركة، ثانية اثنتين غرسهما جدّي أول ما وضع أساس الدّار. الجدّ الزارع الباني الذي ما زرع شجرة إلا أثمرت ولا حفر بئرًا إلا غمرت. كلّما بنى بيتًا عمّره بالغرس قبل النسل، وحين بنى أول بيت وُضع بين نوائل العريب من لبن وحديد، أوت إليه أفئدة الناس وصارت الدّار دوّارًا، والدّوار حيّا. شجرة البرتقال ماتت كمدًا بعد أن تركنا البيت وعمّره الـ كُراة، أما شجرة اللارنج فشاهدت توأمها تيبس سيقانها فيُقطّعها الهمج. راحت صور طفولتي معها حطبًا لأفران الشرابيب الذين لم ينسوا أنهم خدم النار حتى في قلب المدينة الطيبة. "رفقًا بهذه البرتقالة المقدسة يا داسر" قلت مخاطبًا الولد الشقي الذي اختاره رفاقه لجمع ثمار اللارنج المرّة اعتقادًا منهم أنها برتقال وهو خطأ سبقهم إليه الأشقياء من آبائهم. كُنا نضعها في خوابي الزيتون المشقوق والحامض ومُخلّلات الخضر فتُسرّع تصبيرها وتُكسبها مذاقًا رائعًا. سمعتُ أنهم صاروا يصنعون من اللارنج مربّى هذه الأيام ومن كل شئ، لا أفهم كيف يُخرجون الحُلو من المرّ، وهو من أثر يوتيوب دون شك. يا أيها الأولاد المتطايرون على خراب دارنا، يا أيتها الطيور الغريبة، في هذا الحوض غرست أمي شتلات ياسمين وحبق ونعناع، تحت هذه الشجرة جلس جدي وجدتي وأمي يشربون شايًا تخمّر في برّاد حُشرت فوهته بزهر برتقال التقطته أنا وأختي وآسية بنت الجيران ونحن نطوف حولهم كالنحل. هذا الجدع شيّع كل أهله لكنه شاهدٌ على غزل وخطبة وعرس ومأتم وقرآن الفجر. يا بني، احمل ما شئت من الحجارة من هذا الخراب ودع هذه الشجرة المقدسة وشأنها.



- 3 -

لم أر الوادي حين كان يهيج فيحمل في طريقه الحرث والنسل، ولا أستغربه كذلك ففي أرضنا القاسية تعطش البطاح أشهرًا وأعوامًا حتى تكاد تيأس من رحمة السمّاء فتنهمر عليها المزن كأنها تعتذر عمّا فات، أو تنتحب عمّا هو آت.. فتجري الجداول وتمتلئ الغدران وتغتسل الكروم وتصحو الضفادع.. ويحدث في كل جيل أن تتظافر الرّوافد فتغدو سيولا فتتذكر المسارب القديمة وتكتسح سواقيها الرّميمة فتجرف ما تراكم فيها من أكواخ وزرائب وبشر وأنعام.. لم أر جدّي حين سايس الوادي كما يسايس الأحصنة ليطوّعه، ولا رأته أمي وإخوتها حين كانوا صبية في دعة من العيش في دارهم بالرياض، قبل موسم الخروج الكبير من المدينة القديمة المحصنة بالأسوار إلى الفيلات والدور الفسيحة بالأحياء الغاربة، حجة العيش الرغيد والترف.. لم أره حين أتى برفاقه في الجيش وبأحمال شاحنات من صخر الجبل الأزرق، ليمد القنوات ويرصف الطرقات ويقيم أركانها  حجرا صلدا ويكسوها حديدا وإسمنتا، لكنني رأيت درب الوادي الذي ملأه بالحياة بعد الرّكام، وجدار المقبرة الذي أقامه بين الأحياء والأموات، ومضخة النافورة وسقيفة السويقة وصومعة الجامع وبيوتا ودكاكين… ثم ها أنتم تنكرونه كعادتكم، أم لعلكم نسيتم الباني حين طال غيابه فرفعتم المعاول بينكم من بعده، وعدتم إلى طبائع العريب. وأنا الحفيد أتيت لأجوب أركان حدائقكم المُسيجة وصدوركم الحرجة. لا أطلب ميراثًا بل أريد أن أسقي زيتونكم وأرقص في أعراسكم.