أيُّ لونٍ يستطيع أن يربط حجرَ الكهوف بجدارِ مدينة؟ «لون المغرة» يفعل ذلك. إنّه الأثر الحيّ الذي قفز من أصابع نياندرتال إلى قلب مراكش، ليصير توقيعًا حسيًّا يُقرأ قبل أي كلمة.
تبدأ الحكاية قبل أكثر من سبعين ألف عام: قطعٌ من «المغرة» شُحِذت كأقلام، رُؤوسها أُعيد تشكيلها، وخطوطٌ دقيقة حُفرت بها على السطوح. ليس صدفة، بل قصدٌ واضح، تثبته فحوصٌ مجهرية وتصويرٌ بالأشعة لستة عشر قطعة من القرم وأوكرانيا. هناك، تحوّل «لون المغرة» من مجرد صبغةٍ معدنية إلى لغةٍ أولى، يترك بها الإنسان أثره ويعلن بها حضوره.
اليوم، وفي الضفة الأخرى من الزمن، تتجلّى اللغة ذاتها على جدران مراكش. «لون المغرة» هو اللون الرسمي غير المكتوب للمدينة الحمراء: طبقةٌ دافئة من الحمرة الترابية تكسو الأسوار والدور والأسواق، توحِّد المشهد وتمنحه نبرةً واحدة يعرفها القادمون من بعيد قبل أن يقرأوا أسماء الأزقة.
ليس «لون المغرة» في مراكش ترفًا بصريًّا؛ إنّه سياسة ذوقية وثقافة عيش. ضوء المغرب القوي يتحوّل معه إلى حبرٍ على الواجهات، والطين يصير ذاكرة تُلمَس بالعين. في كل زاوية، توقيعٌ من المغرة يقول: هنا مراكش، هنا مدينةٌ تصون صورتها كما تُصان الحكاية.
من حجرٍ مُشحَّذ لدى نياندرتال إلى واجهةٍ مدهونة بعناية، يخبرنا «لون المغرة» أن اللون أقدم من النص وأقرب إلى الوجدان. به ننظّم الفضاء ونوقّع المكان وننسج سرديةً مشتركة يتعرف بها الناس إلى مدينتهم كما يتعرفون إلى أنفسهم.
هكذا يغدو «لون المغرة» جسرًا بين علامةٍ على صخرٍ وعلامةٍ على جدار، بين إنسانٍ يكتشف رمزيته الأولى ومدينةٍ تُثبّت هويتها بلغةٍ تُرى قبل أن تُقرأ. لونٌ يحمل دفءَ الأرض وبهاء الضوء، ويحوّل المكان إلى فكرةٍ حيّة لا تغيب ما دام على الجدار أثرٌ من «المغرة».