متلازمة الخابية والبطيخ والنعناع من قوانين الطفولة التي كانت راسخة في كل دار مثل الملح والكامون والسّمن والعسل. حرصتُ على تحقيق هذه الصورة، التي لاحقتني مؤخرًا بإلحاح عجيب، لأحضرها معي، فحققت اثنتين من قيم المتتالية بالفعل وكدتُ أجلب الثالثة.
اشتريت قلة طينية صغيرة وغرافًا من صلصال الحوز. عرضتْ علي سيدة الدكان أن يزينهما لي الصّانع بالقطران فترددت ثم قلت لا بأس ولكن قليلا فقط ومن الخارج. هذه أول مرّة أرى معلمّة فخارين امرأة، أمرٌ غير مألوف في هذا السوق. نصحتني أن أختار دائما الطين الأحرش "لأنه يجعل الماء أكثر صفاء". شكرا، ولا داعي للتدقيق فالنصائح عندنا تُبذل كلما التقى اثنان وهي تُقدّمُ غالبا كعربون مودة لا للاستخدام الآدمي. سلمتني القلة والغرّاف ملفوفين بالجرائد، فتعهّدتُهما بالعناية ثلاثة أيام بلياليها ووضعتهما وسط الحقيبة محاطين بثياب تقيهما الانكسار، وأحضرتها كمن أحضر كأس العالم في متاعه، وسيبقى هذا نصيبي من نهب التراب الوطني إلى العام القادم. وحسبي ذلك من تهريب الثروة.
أما المكون الآخر فأنفقت فيه وقتا وجهدا لكنه ضاع، أو بالأحرى "احترق" بسبب تأخر الرحلة من مراكش فلم تقاوم أوراق النعناع والعطور ساعات طوال من حرارة تذيب الحجر. يالها من خسارة! ربطات من أصناف متنوعة من النعناع البلدي والعبدي والفليوي وربطات مشكلة من عطور الجبل منها العطرشة وتميجا النعناع البري والسالمية وأصناف أخرى لا أحفظها مهما حاولت.. وأنواع أخرى أرفضها دائمًا عندما يحاول البائع أن يُكمل الربطة بزيادة عروش من اللويزة، لأن مذاقها القوي يطغى على بقية العطريات وتذكرني بشراب الرّضع عندما يوجعهم المغص. أما الشيبة التي تضاف للشاي في الشتاء لأنها تقاوم الصقيع، فآخذها بحذر ولا أضع منها إلا القليل لسبب مضحك لكنني لا أستطيع نسيانه منذ أن قال لي صديق في جلسة شاي إن أباه يرفض شرب الشاي بالشيبة بدعوى أن الكلاب لا يحلو لها أن تتبول إلا على شجيرات الشيبة. ولكن إصرار أبيه المريب وغضبه المبالغ فيه كلما أخطأوا وأعدّوا له الشاي بالشيبة جعله يشك في قصة الكلاب، لا سيما أن والده كان دائما بطل الكثير من الطرائف والمستملحات التي تسلينا. ولمّا بحث في الموضوع، والكل مصرّ على الإنكار، أسرّ له أحد أقاربه من جيل أبيه إنهم يخشونها لأنها تنقص من الفحولة!!! ضحكنا طبعا لأن أباه هذا قارب المائة وقد أنجب فيلقا من الأبناء والأحفاد. فإن كان يخشى على نفسه من الشيبة فنحن لها أخشى من باب أولى.
طبعا الموضوع غالبًا لن يعدو أن يكون من غرائبنا التي نتعهدها بالرواية والتحوير في مدينة يعشق أهلها القصص والنوادر، ولكن لا تدري فالأمر لا يسلم ولا دخان من غير نار ولا تشرب شيبة لا تخف من عواقب رهيبة.